أبناؤكم ليسوا عبيدكم
مع غياب دور الدولة وأجهزتها الرقابية وما تظهره من قوانينها الضعيفة كحال أغلب الدول العربية والإسلامية والتي تعاني من وجود فجوة بين الأبناء والآباء؛ وذلك بسبب تشنج علاقاتهم، أو انفتاحهم ودلالهم الزائد، وفي كلا الأمرين فإن الضحية سيكون الأبناء، لاسيما أن المجتمع القبلي وآراء الجاهلية الأولى ما زالت تتقد نارها في عقول بعض المتشددين.
أنا لست أنت
أول المشاكل التي تواجه الأبناء هي إرادة آبائهم في أن يصبحوا ما يريدونه هم دون الحاجة إلى حصول القناعة للأبناء، وهذه الحالة قد تمر أحيانًا بخير دون حصول أي ضرر، إلا أنها تبقى حسرة في قلوب الأبناء تنعكس مستقبلًا على أولادهم، فليس من الصحيح أن تستنسخ نفسك في ابنك، وليس من المخجل أن يصبح ابنك مصلح سيارات متفوقًا، بينما أنت طبيب متفوق، فلا علاقة بين ما أنت تجيده وما يجيده ابنك، فواجب الآباء هو توضيح ما في الحياة من جوانب إيجابية مبهجة وجوانب سلبية مؤلمة، عليهم أن يوضحوا لأبنائهم حجم التحدي حتى إذا بلغوا معهم السعي فحينها لا يوجد مجال لفرض الكلمة، بل يجب اللجوء إلى الحوار.
ولكن هذا لا يعني أن نتركهم يتخبطون بقراراتهم الصبيانية العاطفية وينجرفون نحو عمق الفشل السحيق، فرسم الخطوط التحذيرية لبعض القرارات المضرة هو واجب الزامي على الأبوين، ولكن ليس مسوغًا لهم أن يجعلوا خطوطهم بالطول والعرض وفي كل صغيرة وكبيرة، وعليهم أن يعلموا أن أبناءهم ليسوا هم، وليس من الضروري أن يكونوا مثلهم.
لو استمع الأب المهندس إلى قرار ابنه، وهو يريد أن يدرس الفنون؛ لأنه يعشق الرسم، فهنا عليه أن يحدد ما لهذا القرار من مساوئ، وما فيه من حسنات، فهل لهذا المجال مستقبل على المستوى البعيد؟ وهل لهذا المجال مقبولية في الوسط الاجتماعي؟ وهل هذا المجال سيكون حائلًا بين ابنه وبين النجاح؟ وعليه أن يعي أن ليس كل مهندس ناجح، بل هناك من أدخلته شهادته في الهندسة السجن، وليس كل من كان رسامًا يعيش حياة صعبة وضنكًا، فهناك من يمثل بلده في بلدان العالم.
أنا لست عبدًا
ما أن ينشب الخلاف الفكري بين الأبناء وآبائهم حتى ينفخ في بوق الحرب، ويعلن الطرف المسيطر على زمام الأمور فضله، حيث إنه هو من يعمل ويصرف الأموال ومن لا يعجبه رأيه عليه أن يغادر البيت، وهذا المطب ينجو منه أحيانًا الذكور من الأبناء؛ لأنهم يجدون عملًا وسكنًا ويستقلون بذاتهم، ولكن الإناث هن من يعانين من هذه التصرفات السخيفة والتي يهدد بها بعض الآباء أبناءهم، فالبنات ليس لهن القدرة على الفرار، ومع جو المجتمع الفاسد فإن البنت ستتعرض للأذى خارج بيتها أكثر مما تتعرض له وهي فيه، لذلك ستجدها تستسلم للأمر الواقع وتسكن.
ولكن ماذا لو تمردوا على قرارات الآباء بغباء وتهور؟ هل يعي الآباء أن هناك أبوابًا مفتوحة، وأيادي ممدودة، وهي تتصيد هؤلاء الهاربين من بعبع العائلة نحو الحرية التي يرونها بمخيلتهم القاصرة، هناك حيث يقعون في الشباك لينتهي بهم المطاف بعد السعي الطويل في مربع الفاشلين والمجرمين وقطاع الطرق.
مسؤولية الآباء كبيرة جدًا، وأكبر من أن تؤطر في صرف الأموال والرعاية الصحية وتوفير المستلزمات الأخرى للحياة الكريمة، بل تتعدى إلى صناعة الشخصية والإنسان الواثق من نفسه، وأن الشهادة الأكاديمية هي مكملة للإنسان لا صانعة له، هو من يصنعها ويجعلها ذات قيمة، فليست هناك مقارنة بين طبيب يتاجر بالأعضاء البشرية المسروقة من أناس مختطفين، وبين طبيب يعمل في البلدان التي لا يوجد فيها استقرار من أجل أن ينقذ الناس، فيجب عدم دفع الأبناء نحو الشهادة من غير حصانة، فلا أحد يريد لابنه أن يكون ذلك الطبيب الجزار والقاتل.
كن صديقي
هذا ما يريده الأبناء، شخص يحسسهم بأنهم أصحاب قرار، وأن رأيهم مسموع، وأفكارهم تناقش بالمنطق والعقل، وأن تكون الموعظة بالإقناع لا بالإكراه، فهم بحاجة إلى صديق يتفهمهم ويفهمهم، صديق يثقون به وهم يخبرونه تجاربهم ومغامراتهم، ولا يخشون عقوبته، بل ينتظرون عفوه وتوجيهه، هم بحاجة إلى شخص يفكر مثلهم ويتوقع ما سيحصل لهم من خلال تجاربه الكثيرة، وهنا سيتحول الصديق إلى رمز وقدوة، لاسيما وأنه لا يريد في المقابل أي أجر أو شكر، ولا يفعل ذلك لقصد الانتفاع والاستفادة، إنما يفعله بدافع الحب.
الصديق المقرب هو من يعالج الأمور بالحكمة لا بالعجلة، وهو من يقدم الدليل مع الموعظة، ويستأنس برأي صديقه وأن كان يصغره سنًا، وهذا النموذج من الحوار الأبوي بنكهة الصداقة نجده في القرآن الكريم حينما يتحدث لقمان إلى ابنه وهو يعظه، وكذلك في حوار إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام وهو يسأله عن رأيه في تنفيذ حكم الله في ذبحه كما جاء في الرؤيا، وهذا ما يجعل من شخصية الأبناء أقوى وأمضى.
اشترك في بريدنا الالكتروني لتتوصل باشعار فور نشر موضوع جديد