الإدارة الصارمة
هناك مقولة مشهورة كانت تكتب في مداخل الوحدات العسكرية، وهي «الوحدة بآمرها»، وتعني أن الوحدة العسكرية إن كانت منظمة وجيدة فهذا يعني أن آمر الوحدة منظم ومثالي، والعكس صحيح، وهذه الفكرة العسكرية في إدارة المنظمة تعتمد على أسلوب واحد، وهو الصرامة والشدة وعدم الاكتراث، وهذا الأسلوب الإداري هو السبب في نجاح انتظام الوحدات العسكرية.
هل الإدارة الصارمة ناجحة إذن؟
في المنظمة العسكرية تكون الإدارة الحازمة أكثر نجاحًا من غيرها من الإدارات؛ بسبب أن العسكر ينقسم إلى طبقتين أساسيتين؛ وهما الضباط والمراتب، ويجري التعامل مع الرتب لا مع الأشخاص، فلا قيمة للفرد، ولا لشخصيته، وكفاءته، ومدى استيعابه أو غبائه، فهذه الإدارة تتعامل مع الأفراد على أنهم متساوون بالعلم والجهل، ولا تعتمد على تفكيرهم، بل تعتمد على تفكير الإدارة العليا فقط، ولهذا يرفع شعار نفذ ثم ناقش ولا تناقش.
ومن أجل أن تجري السيطرة على الأفراد بوصفهم ناقصي الأهلية حسب نظرة الإدارة العسكرية الصارمة، فهم يوزعون المهام والآليات بالتفصيل الدقيق، إذ ينام ويستيقظ الفرد في ساعات محددة، ويتناول الغذاء بحسابات وتوقيتات معينة، وينفذ ما يعد له من جدول أعمال يومية ويحاسب عليها، وأي مخالفة تصدر من أي فرد يعاقب عليها صغيرةً كانت أم كبيرةً، وهذا الأسلوب هو ما يبقي المؤسسة العسكرية قوية ومتماسكة، وغير متراخية.
لكن هذه الإدارة لا تنجح في غير المجال العسكري، فلا تستطيع تطبيقها على المؤسسات المدنية والمنظمات بشكل عام، وذلك بسبب أن الأفراد المدنيين يختلفون عن العسكريين من ناحية طبيعة حياتهم اليومية، فالعسكري ينقطع عن العالم بمجرد التحاقه بالوحدة وتصبح هي شغله الشاغل، ولا مجال له لأخذ الإجازات وغيرها بحرية؛ لأنه يعمل في نظام إداري متكامل لا يمكن التفريط بأي جزء من اجزائه، أما المدني فهو يعمل بعدد ساعات محددة، وبعدها يعود إلى حياته الطبيعية، وهذه العودة المستمرة تظهر تأثيراتها على أداء الفرد في عمله، إيجابًا وسلبًا، لذلك عند استخدام الأسلوب الصارم مع الفرد المدني فإنه سينتج ردود فعل عاطفية تدفعه إلى الانشغال عن الإنتاجية والعمل، وتحين الفرص لمخالفة التعليمات والضوابط الحازمة لإثبات شخصيته التي يجدها في البيت ويفقدها في العمل.
العسكري يؤمن بأنه ليس بمستوى الوعي والعلمية، ويترك قراره بيد الأعلى منه رتبة، مساويًا لنفسه مع أقرانه، مسلمًا نفسه بالكامل إلى الإدارة العسكرية ومن غير نقاش؛ لأن الطاعة في الجيش محمودة وغير مذمومة، ولا عار في إطاعة الأوامر، ولا عيب في التوبيخ والعقوبة، بينما المدني يرى التوبيخ والعقوبة إهانة له ولشخصيته، ولا يستطيع أن يضع نفسه بوصفه فردًا صاحب شهادة أو خبرة مع من هو أدنى منه تحصيلًا دراسيًّا أو خبرةً عملية؛ لذلك فإنه سيتمرد على العمل، وهذا التمرد سيظهر على عدة أشكال.
من أشكال التمرد
عدم الاكتراث، واللامبالاة، وعدم الاهتمام لتوبيخ المدير أو رأي المسؤول، واستغلال ضوابط الإدارة في هدم العمل وعدم الإبداع أو الاندفاع نحو تحقيق الأهداف يرافق ذلك التخريب المتعمد والمدروس للمنظمة، وتسريب أسرارها، وسرقتها، والتعامل معها على أنها عدو وليست بيتًا ثانيًا أو مصدر الرزق الواجب احترامه.
وإذا أردت أن تفشل أي منظمة مدنية ما عليك سوى أن تستخدم الإدارة الصارمة فيها لتحول العاملين فيها إلى أعداء لك وللمنظمة، فعدم الاهتمام الفعلي بمستوى إنتاجية المنظمة، وتشجيع الأفراد العاملين فيها والوقوف على المؤثرات السلبية التي تقيد عملهم، ومحاولة إظهار قابلياتهم ومهاراتهم واستقطابهم وتطويرهم نحو الأفضل، وجعل الاهتمام منصبًا على الانشغال بمتابعة الحضور والانصراف، وطريقة اللبس واستخدام الهاتف، وتناول الطعام في المنظمة، سيتحول من حالة إدارية إلى هوس ومرض في المنظمة، وسيجعل الأفراد يفكرون في الممنوع ويتكلمون يوميًّا في المعاناة نفسها، ومع كثرة الانتقادات ستقل الإنتاجية، ويهبط المستوى، ويتدنى الأداء حتى تصل المنظمة إلى الدخول في دوامة الصراع الداخلي، لتتآكل وتتهالك، وتختفي القيمة الفردية والطموح، ولا يبقى في بال الفرد سوى انتظار موعد الخروج والاستراحة.
اشترك في بريدنا الالكتروني لتتوصل باشعار فور نشر موضوع جديد