لغز جميلة
أحمد، شاب وسيم وغني وذكي،
لكنه رغم فطنته وعقله الراجح إلا أنه لم يكن حكيماً بما يكفي، ولكنه كان يتصف بكونه لا يخالف عهداً او كلمةً قطعها ابداً، ولا ينقض بيعة أو يحنث بالقسم.
كانت لأحمد تجارة جيدة في مدينته، وفي إحدى الأيام وهو يتفقد السوق والبضائع رأى شابة جميلة وكان اسمها جميلة، كانت لها ابتسامة ساحرة، وأخلاقها كخلقها جميلة ايضاً، أحمد لم يستطع أن يشح بناظريه عنها، ووقع في حبها، كانت أول فتاة يقع أمام جمالها.
جميلة، كانت تمتلك الحكمة التي يفقدها أحمد، ولكنها كانت قد اشترطت على من يتقدم إليها من الرجال، أن يقبلوا ويتعهدوا بالالتزام بتبعات عدم إنجازهم للشرط، وإلا فإنهم سيتعهدون بقبول إكمال حياتهم معها بزواج مع وقف التنفيذ، وأيضاً أن يقسموا على أن لا يتزوجوا أو يقاربوا أي امرأة أخرى ابداً.
كان الشرط وعقوباته صعبة وليست محلاً للمجازفة، ولم تكن غنية ولا حورية من الجنة حتى يقبل بها الرجال، لذلك لم يوافق أي أحد على ذلك، الا واحد فقط وهو احمد.
أحمد قبل بالشرط، وتعهد بالتنفيذ، وبعد أن تم الاتفاق، أعلنت عن شرطها الغريب، وكان على أحمد أن يجيب عنه خلال خمسة عشر يوماً بعد زفافه، وإلا يطبق ما تعهد به لها، وكان الشرط هو سؤال بسيط وصعب في نفس الوقت.
وقف أحمد أمام جميلة عند باب الدار وقد انتهت مراسم الزفاف، وحانت اللحظة الحاسمة، فسألت جميلة سؤالها المحير، وقالت له: “أحمد، أين العقل؟!”.
انقضت المدة، لم تفلح كل المحاولات والأجوبة، لف المدينة ولا أحد أجاب بالصحيح، قرر أحمد أن يخرج بالتجارة وهناك في القرى الأخرى يبحث عن جواب، وبعد أن جهزت القافلة وتهيأت للمسير، ودع أحمد زوجته جميلة، ولكنها وقبل أن يسافر علقت حول عنقه قلادة فيها مفتاح البيت، وقالت له: “اعدك أني لن أغير قفل الدار ولا لونه حتى تعود ولو تطلب العمر كله”.
سافر أحمد في درب التجارة الطويل
ودخلوا إلى الصحراء الكبيرة، وكان الدليل قد احتاج إلى مرتفع ليعرف أحوال الطقس، وبينما هو واقف على حافة إحدى الصخور، عند شبه هضبة بارزة مع صخورها المبعثرة وسط الرمال، تحركت تلك الصخرة ووقع من الشاهق وتسببت له الإصابة بالوفاة.
السيارة بلا دليل وسط الفراغ، لا أحد يعرف الطريق، والكل بدأ يقود مجموعة نحو طريق هو يراه صحيحاً، وأحمد بين هذه الفوضى لم يكن قادر على أن يتخذ أي قرار، وانتهى الحال إلى تقسم القافلة وكل واحدة ذهبت باتجاه، لم تمر إلا ساعات، وحينها هبت عاصفة رملية شديدة، فقد الجميع تركيزهم ورؤيتهم، عصف الريح دفع كل شيء إلى المجهول، وما انتهت العاصفة الا وأحمد وحيداً في وسط العدم، لا قافلة ولا أموال ولا زاد.
قرر أن يتبع ضوء إحدى نجمات السماء، كانت بالنسبة له واضحة ولا تتداخل مع باقي النجوم الأخرى، نجمة مميزة ومنقذة، سار كثيراً حتى تراءت أمام عينيه لمعة نيران، تحرك نحوها وكانت خيمة لحراس إحدى قبائل البدو السيارة.
حملوه إلى إحدى المضايف، كانت لشيخ كريم وسخي، وكان مضيفه معروفاً باجتماع الوجهاء والعلماء وأصحاب الخبرة والعقل والحكمة، كان مضيفاً عامراً كبيراً لا يخلوا من الضيوف في كل الأحوال والظروف، كان الشيخ اسمه حسن، استقبله وعالجه، وأضافه خير ضيافة، وبعد أيام من تحسن صحة أحمد، عرض عليه شيخ حسن ان يحدد مصيره، فأما ان يقبل ببعض المال ورحلة عودة إلى قريته البعيدة، أو أن يبقى معزز ومكرم ولكن بشرط أن يحصل على عمل ليقتات منه.
فكر أحمد وقرر أن يبقى، لأنه لم يحصل على الإجابة التي ينتظرها، فطلب من الشيخ أن يحصل له على عمل قريب من مضيفه ليسمع لكلام الحكماء عسى أن يحظى بفرصة لمعرفة إجابة السؤال الذي حرمه من زوجته، وكانت الوظيفة الوحيدة التي تعطيه هذه الفرصة هي أن يعمل معداً للقهوة، ولكن يشترط بهذه المهنة أمر مهم، وهو إلا يتحدث إلا أن طلب منه ذلك.
وافق أحمد وعمل بإعداد القهوة للضيوف، وكان يسمع كل الحكم والمواعظ في تلك الخيمة الكبيرة، ولكنه حرم من طرح أي سؤال، مرت الأيام، والشيخ اعتبر أحمد كابنه، كان يرعاه ويعطيه أجرته، ولكن أحمد كان يرفض أخذها، وشيخ حسن كان يتاجر بها ويزيدها دون علمه، لأنه أرادها أن تكون هدية له حينما يعرف إجابة السؤال الذي تغرب من اجل معرفته.
لم يسأل احمد شيخ حسن عن سؤاله قط، وكذلك شيخ حسن لم يسأل أحمد عنه قط، لا أحد يعرف السبب، ولكنهما لم يتكلما عن الموضوع رغم المدة الطويلة التي مرت عليهما معاً، لقد مرت خمسة عشر عاماً على خروج أحمد من قريته ووداع زوجته.
وفي إحدى الليالي الباردة والرطبة
وبعد أن غادر الضيوف، شعر الشيخ بالتعب وأحب أن ينام في المضيف، وفي تلك الليلة كانت خزنة الأموال التي يحتفظ بها الشيخ بأمواله موجودة في المضيف، وكان أحمد يعلم بذلك بالطبع، لأنه كان مؤتمن من قبل شيخ حسن.
وبينما كان شيخ حسن نائم، توجهت إليه أفعى سامة، سمع أحمد صوت فحيحها، وتوجه بسرعة إلى العمود بقرب شيخ حسن حيث علق عليه الشيخ سيفه، فجرد أحمد السيف وقتل الأفعى قبل أن تصل إلى الشيخ، حملها ودفنها خلف المضيف في الرمل، ولما رجع حاول أن يعيد السيف إلى غمده، ولكن نصل السيف أصدر ضجيجاً بسبب الرمل والدم، فاستيقظ الشيخ على الصوت، ارتبك أحمد وخجل بسبب إيقاظه للشيخ، فاحتضن السيف وأخفاه بملابسه، وتصنع صوت الشخير والنوم العميق.
في الصباح وجد أحمد الشيخ قد استفاق مبكراً وحوله رجال عشيرته ووجهائها، وكانت تعابير وجهه مكفهرة، والغضب بائن في عينيه، وبمجرد أن رأى أحمد وبدون أي مقدمات، قال له بصوتٍ عالٍ: “هذه أموالك التي ادخرتها لك وهذه الأغنام ايضاً لك خذها وارحل ولا تعد ابداً”.
كانت كلمات شيخ حسن كالسكين تذبح بأحمد، لم يشأ أحمد أن يغضب الشخص الذي رعاه واعتبره ابنه، ولكنه أراد أن يعرف السبب ويرحل بعدها على الفور، وبعد إصرار أحمد على الشيخ، أخبره السبب، كان يظن أن أحمد تلك الليلة كان يحاول أن يقتل الشيخ ويسرق أمواله، ولما استفاق من نومه أخفى السيف بين ثيابه.
أحمد أخذ الشيخ إلى مكان قتل الأفعى، وأراه مكان الضربة وأثر الدم على الفراش، ومن ثم أخذه إلى خلف المضيف ونبش مكان الأفعى، وبعدها أخرج السيف وأراه أثر الدم والرمل، شرح له السبب، وأنه أراد ان يبر به لا أكثر ولا أقل.
أراد احمد أن يرحل بعد أن خاب أمله، خسر زوجته وخسر الرجل الصالح الذي رعاه، وراحت السنوات سدى، ولكن الشيخ استوقفه، واعتذر منه، وقال: “يا بني أنا آسف كان عليَ أن أتحقق واصبر قبل أن أقرر، صحيح يا بني كما قالوا، إن العقل في الصبر”.
“العقل أين؟؟؟؟!!! العقل أين؟؟؟؟!!! في الصبر!!!!!!!”، هكذا كانت ردة فعل أحمد، كان قد أمضى خمسة عشر عاماً مع شيخ حسن وهو يعرف الإجابة، كانت صدمة كبيرة أيضاً على شيخ حسن، لو سئل أحدهما الآخر منذ البداية، لما طال الأمر كثيراً.
توادعا، أحمد وشيخ حسن
وحمل أحمد أمواله والهدايا معه متوجهاً إلى قريته، كانت لحظة صعبة على كليهما، ولكنها كانت مفرحة لأحمد، لأنه سيعود إلى جميلة.
وصل أحمد إلى قريته أخيراً، كان الليل قد حل، سار في شوارع القرية، تغيرت عليه نوعاً ما، إلا أن طريق الدار مازال في مخيلته، ووقف عند باب الدار، كما وعدته زوجته جميلة، لم تغير لونه، جرب أن يفتحه بالمفتاح الذي قلدته إياه قبل سفره، فإذا بالباب يفتح، توجه نحو الغرفة، فإذا بجميلة نائمة وإلى جانبها صبي هيئته كهيئة الرجال، هنا دارت في مخيلة أحمد أن جميلة أرسلته لتخونه مع غيره، وظلت الأفكار تشاغب في رأس أحمد، ومد يده على سيفه، أراد ان يجرده، ولكنه تذكر ما حصل له مع الشيخ وأن العقل في الصبر. فقرر أن يخرج وينتظر الصباح ليعرف الحقيقة.
في الصباح طرق أحمد الباب
فتحت جميلة الباب، وعانقته واستقبلته استقبالاً حاراً، وأبدت ندمها لما فعلت ولما اشترطت، ولكن أحمد لم يعر لأي شيء اهتمام، كانت عيناه تبحث عن الفتى وعن الإجابة، فخرج الشاب من الغرفة ووقف دون حراك، ينظر باستغراب إلى جميلة وهي تعانق أحمد، كلاهما لم ينطق بشيء، وكانا ينظران إلى جميلة، لأنها الوحيدة من يمتلك الجواب.
تبسمت جميلة وقالت: “أحمد هذا ابنك علي، علي سلم على أبيك أحمد”، علي عمره خمسة عشر عاماً، لما سافر أحمد كانت جميلة حامل بابنه علي، هنا روى لها أحمد ما حصل، وكيف أنه أراد ان يقتلهما معاً، ولكن ما منعه، أنه علم أخيراً أن العقل في الصبر.
اشترك في بريدنا الالكتروني لتتوصل باشعار فور نشر موضوع جديد