صرت نحلة بعدما كنت ذبابة
كأي مراهق، وفي سن الأربعة عشر عاماً، كنت قد بدأت في مرحلة الانتقال
من صبي، الى رجل، ليست من الناحية الجسمانية والغريزية فقط، بل حتى من الناحية
الفكرية، كانت تدور في ذهني مئات الأفكار والآراء، ومغالطاتي لا تعد ولا تحصى،
القرآن وشبهاتي التي لا تنتهي معه، كنت اظن باني عاقل، واني قادر على الترجيح بين
الأفكار، وشجعني أنى كنت اتسكع مع من هم امثالي، نجلس ساعات طويلة نتناقش في حديث
نبوي، او اية من القرآن، ومرة كنا نهاجمها بعنف وأخرى كنا نستدل بها كدليل، لم
نعرف أنفسنا حينها هل نحن مسلون ام ملحدون؟
بالطبع لم يقتصر الامر على ذلك فقط، بل تعدت افكارنا الى ابعد من ذلك
بكثير، فناقشنا القانون والاسرة والعلم والرياضة والسياسة والاقتصاد والزراعة
والصناعة، لم نتوقف الا بعد ان انتهت جميع حيلنا وافكارنا، فملنا الى الغريزة
لنتوجه الى مدارس البنات، لنتابع بعض الفتيات على امل ان نصاحب احداهن، فاكتملت
صورتي على شكل الذبابة، ذبابة مزعجة بأفكارها وصوتها النشاز، الحاحها المستمر،
دورانها وحركاتها البذيئة، وهروبها الدائم من المواجهة، وصولاً الى السير نحو
المزابل والحلويات، بلا تمييز بين الصح والخطأ، كنت ذبابة بمعنى الكلمة، ولكني لم
اجرب طعم الحلويات ولا المزابل، لم تكن الفرصة قد سنحت لي لذلك.
كنت ارجع الى البيت قرابة الساعة الثانية عشر ظهراً، وأول شيء افعله،
أتوجه الى قدر المرق وقبل الكل كنت اغمس الخبز واكل، وكان عندنا مذياع، وبالصدفة
كان المذياع يشتغل على إذاعة لم اكن اعرفها، ولكن الصوت كان منخفضاً جداً، حتى
كأني اسمع همساً غير واضح، ولم اعر الامر أهمية، وبينما انا اكل، فاذا بصوت رخيم
يصدر من المذياع، هذا الصوت جعلني اتوقف عن مضغ الطعام لاستمع له، ورغم انه لم يكن
واضحاً الا انه كان جميلاً، لم يكن فيه لحن او موسيقى، كان صوت رجل يتحدث، فأخذتني
حماسة حب الاستطلاع الى ان اعلي صوت المذياع.
تركت الطعام وجلست بين يدي مذياعنا الأسود القديم، وانا استمع لهذا
الصوت، ولكلامه الذي اراني حجمي الحقيقي، كان منطقه جميلاً جداً، وتسلسل كلامه سلس
لدرجة ان الوقت مر وانا لم اعي ذلك، وبقيت اتابع الإذاعة في ذلك اليوم على امل ان
استمع الى هذا الصوت مرة أخرى، وأصبحت عادتي الجديدة ان ارجع الى البيت على عجالة
لاستمع لكلام هذا الرجل المبدع، وفي اليوم الذي لا اسمع صوته ينتابني شعور غريب
وكأني افقد شيئاَ، ورغم ان هناك من كان يتكلم بدلاً منه الا انني لم انجذب الى
كلامهم كما كنت انجذب الى كلامه، فرغم ذلك ما زلت ذبابة لا ترضى السكون
والاستقرار.
لم اعرف اسمه، الا بالصدفة، ولم اعرف شكله الا بعد بحث طويل جداً، وفي
الخفية من النظام البعثي، لأنه كان مطارداً من قبل حزب البعث، وشيئاً فشيئاً أصبحت
انتقل من كوني ذبابة الى ان أصبحت نحلة، كان هذا العالم والخطيب هو الزهرة التي
تفتحت امامي، لأخذ من رحيقها واعرف معنى العسل، وانتقلت من مجادل ساذج، الى مجادل
راغب في التعلم.
ان لهذا الرجل فضل عليَ لما انا عليه اليوم من ثقافة واطلاع، منهجه
العلمي والحواري علمني ان أصبح معطاء، ان ابحث في الجيد واترك الخبيث، علمني ان لا
أكون ذبابة وان أكون نحلة، فشكراً لك على جهدك ومجهودك، شكراً لك أيها الدكتور
والخطيب والعالم والفقيه والعميد (احمد الوائلي) ورحمك الله وجعل الجنة مثواك
وحشرك مع محمد المصطفى واهل بيته الاطهار.
والحمد لله رب العالمين
يرجى زيارة موقع المقالة في موقع مقال ومتابعة صفحتي الشخصية
اشترك في بريدنا الالكتروني لتتوصل باشعار فور نشر موضوع جديد
0 الرد على "صرت نحلة بعدما كنت ذبابة"
إرسال تعليق