تجربتي في السجن
تجربتي في السجن
“عندما تعيش تجربة مؤلمة وتقف بعد سنوات على ذكراها وهي مازالت على قيد الحياة رغم كونها ذكرى وتتمنى ان تموت لتزورها في قبرها زيارة الوداع الاخيرستشعر بانك لم تغادر عالم الالم”
وبدأت القصة
كنت اتأمل، وارى مستقبلي بعد الخدمة العسكرية الإلزامية، لم يكن يفصلني عن حلم التحرر من القيود الا أشهر معدودة، حتى في ظلام الليل كنت أرى نور الفجر، هكذا كنت متفائل، كان كل شيء هادئ، ولكنه كان كما يقال الهدوء الذي يسبق العاصفة، فاذا بصوت عجلات السيارات المسرعة تتوقف عند بوابة المعسكر وعلا الصراخ والضجيج، كانت لحظات سريعة، حتى أني لم أستطع ان أقوم من مقامي، فاذا بوجوه مكفهرة، وقد ارتسمت على محياها علامات الحقد والعدوان، وسألوني سؤالاً واحداً ولا أتذكر أني قد اجبتهم عنه! كان سؤالهم (هل انت فلان الفلاني)؟ بالطبع كانت تسبقه شتيمة وتلحقه شتيمة ولكن المقام ارفع ان تذكر كل العبارات.
عصبوا عيني وكتفوا يدي الى خلف ظهري وربطوا رجلي وجروني ككبش يجر الى المسلخ، وكنت لا اسمع الا الشتم والسباب، واعتبروني خائناً للبلاد، ولكنهم رغم كل السباب فقد كانوا كراماً معي، فقد كانت كحفلة زفاف وكنت فيها العريس، وكانت تبريكات الأحبة بين ركلة وصفعة ولكمة، اما من كان يعزني كثيراً فقد قدم تبريكاته بأخمص البندقية، ومن شدة فرحي بهذه الاحتفالية أغمي علي ولم اشهد نهاية زفتي الى عروستي.
عدت الى وعيي وانا على ظهر حبيبتي التي لطالما امتطيتها، انها ايفا حبيبة قلبي، انها السيارة الروسية التي حملت بها الى الجحيم، كنت قد مت او اعتبرت نفسي ميتاً، ايست من الحياة، كنت اتلقى التهاني والتبريكات على رأسي مراراً وتكراراً، بل لم يتبقى أحد مررت عليه الا وقد قدم الي التبريكات وليست أي تبريكات، بل تلك التبريكات الحارة، كانت من العظم الى العظم.
وبعد أيام من الاستقبال الحار في امن المعسكر، نقلت الى أعتى السجون وأشدها خطراً، نقلت لأقضي شهور العسل الثلاثة تحت الأرض، في مكان كان يسمى (الشعبة الخامسة).
كنت في اسوء حالٍ لي ورغم ذلك كان يدور في ذهني سؤال سخيف جداً، كان (لماذا الشعبة الخامسة وليست السادسة او السابعة؟)، أحمق وغبي، او سكران من كثر ما سقيته من الذل، او كان هذا السؤال منفذاً لأتحرر من الخوف، الخوف الذي عرفته وعرفت معناه.
تحت الأرض بستة عشر قدم، او اقل او أكثر، رفعوا العصابة عن عيني، كان ممراً ضيقاً وعلى جانبيه أبواب حديدية، كانوا يطرقون الأبواب ويوزعوننا على السجانين، كان الحظ قد حالفني حينها، فلم يكن هنالك مكان لتعليقي على الجدران، نعم كتلك الأفلام الأجنبية التي كانت فيها الايائل معلقة على جدران المنزل للزينة، كانت حصتي ان أعلق من قدمي الى سقف الزنزانة.
الزنزانة ضيقة جداً، ولا توجد فيها منافذ او تهوية، اعتدت ان لا اشم أي رائحة ولا اتذوق أي طعم، كان كل شيء متشابه بالنسبة لي، لا ليل ولا نهار ولا حديث ولا كلام ولا تعارف، فقط ضرب وشتم وتعذيب، تذوقت طعم الإهانة عندما دعسوا رأسي بأحذيتهم، كان طعماً تمنيت ان اموت قبله وبعده، طعم لا يقاس وصعب علي ان اصفه بالمر، فالمر يطاق وهذا الطعم لا يطاق.
عندما استفيق من أغمائي لا اعلم كم لبثت في تلك الغيبوبة، ولا أتذكر كيف كنت ومن كان يدغدغ جسدي بأسلاك الكهرباء والخيزران والعصي والهراوات المنقعة بالخل والملح، لم يكن ذلك وصف لجبس ليز، بل كانت حقيقة ما كنا نضرب به.
لو ان منظمة بيتا حضرت الينا في تلك الحالة لأغلقوا منظمتهم، حقوق الحيوان تصان، ونحن بلا حقوق نهان ونعذب، وفي نهاية اليوم، او كما أحب ان اتخيله، كانت جثث المعدومين بالرصاص تملأ ارض الزنزانة، بالأمس كانوا معلقين على الجدران يعذبون، واليوم معدومين بلا رحمة ولا قضاء، قضوا نحبهم وهم لا يعرفون لماذا ولأي سبب، وكأنهم موءودة الجاهلية الأولى، لا تدري باي ذنب قتلت.
هل جربت الشعور بنسيان اسمك، وهل تصورت ان تنساه يوماً؟ وكيف لا انساه وانا اخذ طعامي من على جثث المعدومين، وانام الى جنبهم في ظلمات ثلاث، وكأني أغرق في مقبرة عميقة، واصوات السجناء في الزنزانات المجاورة تعلو بالصياح والصراخ، أصوات الصراخ بأنواعها، تصبح وتمسي وكأنك امرأة تصرخ وهي على وشك الولادة، هذا الشعور عندما تحس روحك ستخرج من ركبتيك وهم يقرصونها بالقارصة، تصرخ حتى لا تشعر بالألم، وبعدها تبكي كالأطفال، تتمنى قبل ان تنام امنية، وان يحكى فوق رأسك قصة، الاميرة النائمة، او قصة الحظ البائس والحياة المرة.
لم اعد اشعر بأطرافي، ولا اشعر بالجوع او العطش، كنت اشعر بالحاجة الى مفارقة الحياة، لم أكن كبيراً كفاية، كنت في الحادية والعشرين من عمري، صغير على رؤية الدماء، ولكني كبرت عشرين سنة، وفي احدى المفارقات، سألني السجان عن اسمي، واجبته أني لا اعلم ولكن ابي اسمه فلان! وظن أنى اضحك عليه واستمر بضربي وتكرار نفس السؤال، ولم اعد قادراً على الإجابة فقد نسيت اسم ابي ايضاً، وحضر رئيس السجانين ليقول له انه عن جد نسي اسمه اتركه، واخذوا يضحكون ضحكاً عالياً ويتدحرجون في الأرض لأني نسيت اسمي واسم ابي، ولا أتذكر ان في الموضوع ما يضحك ولكنهم ضحكوا علي أكثر مما اضحكتني مسرحية مدرسة المشاغبين.
أطلق بعد أشهر سراحي، وترك السجن على جسمي علامات وان محتها الأيام الا انها ستبقى خالدة في ذاكرتي، الم في اطرافي وظهري وخلع في كتفي واصوات الصراخ ما زلت اسمعها حتى هذه اللحظة، رغم أنى اعتدتها وكأنها حبة دواء قبل كل ساعات نومي.
كانت هذه تجربتي في سجون البعث، وكانت هذه العبارات الطف ما يمكن وصفه عن تلك الأيام الصعاب والمحنة الكبيرة التي عشتها مع اصحابي في السجن الذين لا اعرفهم ولا أتذكر شكلهم. والى أرواح من مات ادعوا لهم بالرحمة والمغفرة والى من حمل معه مرضاً او إعاقة بالشفاء ورغد العيش، ولي حسن العاقبة.
والحمد لله رب العالمين
اشترك في بريدنا الالكتروني لتتوصل باشعار فور نشر موضوع جديد
0 الرد على "تجربتي في السجن"
إرسال تعليق